تآزر : قمنا بتحويلات نقدية لآلاف الأسر في العصابة :|: وزيرة : تضاعف عدد المؤمنين لدىCNAM :|: الجيش المالي يتفق مع موريتانيا على تأمين الحدود :|: أبرز المشاريع التنموية التي أطلقها الرئيس في كيفه :|: تكليف شركةسعودية بدراسة جدوى خط أنابيب للغاز بموريتانيا :|: رئيس الجمهورية يصل إلى مدينة كيفه :|: مدير BP موريتانيا : علاقتنا متميزة مع الحكومة الموريتانية :|: بيان من نقابة أحرار التعليم :|: "Aura Energy" تعلن إعادة هيكلة اتفاقية اليورانيوم في موريتانيا :|: تعيينات واسعة ب 3 إدارات في شركة "سنيم" :|:
أخبار
اقتصاد
تحقيقات وتقارير
مقابلات
منوعات
الرأي
مواقع

الأكثر قراءة

متى يكون أكل البطيخ مميتا.. ؟ !!
تعدين الجبس وتجارته الدولية/ اسلك ولد احمد ازيد بيه
الكودالوجيا وصناعة التأثير/ المصطفى ولد البو كاتب صحفي
تصريح "مثير" للنائب بيرام اعبيدي
AFP : موريتانيا أرسلت أدلة على مقتل مواطنيها لمالي
بعد تحديد معايير التزكية... من هم مرشحو الرئاسيات ؟
تحديث جديد على "واتساب" يثير غضب المستخدمين !
أصغر دولة في العالم يسكنها 25 نسمة فقط !!
محامي يحذر من تضررصحة موكله الرئيس السابق عزيز
جولة في حياة الفقيد محمد ولد إبراهيم ولد السيد
 
 
 
 

محمد ولد عبدي : صبر المؤمن، وحسّ الشاعر، ورصانة المفكر

د. محمد بدي ابنو*

lundi 29 décembre 2014


حين تُراجع الأمة يوما ذاتها ولو عرَضا ستعترف بذلك وستتألّم. في حياته، في شعره، في سرده، في فكره ونقده، في عمله اليومي، والسنوي، والأبدي، يمثل المرحوم الدكتور محمد ولد عبدي أُمّة وحده. ظلّتْ وحدةُ أبي ذرّ اسما جامعا لوحدته، وصْفا وجيها لفرادته. وكان يعي ذلك ويدركُ كلْفته. يفصح عما يجمعه بأبي ذرّ بألم حتى في الاستشهادات التي اعتاد أن يُصدّر بها أعماله. لذلك مثلتْ أسماء كأبي ذرّ، وولد امسيكة , ومحمود مسومة أكثر الأسماء وورودا في شعره ونصوصه .
قد تقال أشياء كثيرة عن الراحلين كما عن الأحياء. ولكن محمد ولد عبدي رجل يتجسّد فيما يقول هو نفسه :
"
كيفَ لاسمِكَ أن يُعدَ ؟
وأنتَ مِيمُكَ مَيسَمُ المنفىَ ،
مَراثِي المَنكبِ الغربيِّ ،
مَجلَى الرَّمل يَضربُه محارُ العمر .
حاؤُكَ حَيرةُ الصّحراء ، حاراتُ الصَّفيح ، حكايةُ البحر الأُجاج .
كأنَّ مِيمَك - يا محمد- ماءُ من ماتوا بِلفح الرِّيح في تلكَ الرِّمال الشُّعثِ." ("سيرة")

محمد ولد عبدي هو الاسم العلم لزمن مؤسِّسٍ إبداعا وفكرا، زمن لا يمكن أن يسمى بغير اسمه. منذ بداياته يحمل همّ الكشف الابداعي والمراجعة الفكرية بصبر المؤمن، وحسّ الشاعر، ورصانة المفكر. همّه تأسيس البدايات الصلبة، مفردات ومفاهيمَ. لم يكن معنيا ببنت السلطان ولا ببنت زعيم التجار. واجبه أن يهدي الشموس أولا وأخيرا إلى اللواتي لا يعرفهن أصحابُ القصائد العصماء واللغة الفخمة :
"أرَى بناتٍ قد سُبينَ
وهنَّ يَملأنَ الجرارَ من الغديرْ
أرى صبياً عُصِّبَتْ عيناهُ
مشدوداً براحلةٍ
تَقَطَّعُ أمُهُ حُزنا عليهِ
وحينَ شبَّ عن الدُّموعِ
بَكَى
فردَدَ شَجْوَهُ نايٌ يُقاسِمُهُ الحَنِينَ
ضُحًى
وراءَ قطيع سَيِدِهِ الضّريرْ" ("شقاق الطين")

هكذا انحاز للمضطدين والمظلومين والمشردين. يقول ما عليه أن يقوله شعرا، ويقوله فكرا، ويقوله صمتا. انحاز للإيمان والكرامة. كتب إليَ مرة (23 مايو 2004 : نص الرسالة وإجابتي ملحقان في آخر هذه الأوراق) :" اخترتُ الصمت، قابضا على جمر ضميري، رافضاً إغراءات سوق النخاسة، مستنكفا أن يقرأ ولدي عبادة ذات يوم أنى اشتركت في ضيم أو أعنت عليه. هكذا أنا في وحدتي، منكفئا على قلب أضناه الفراق : فراق الأهل (أبوي وأخوي) الذين سافروا إلى العالم الآخر بلا أوب عسى الله أن يتغمدهم برحمته، وفراق الوطن الذي ما عاد للشعراء والصعاليك أمثالي و أمثالك فيه مستقرٌ."

ظلّ يصرّ أن تستبقي هذه الأرض نخلها وفستقها، شواطئها وتلالها ولكنه ظل يدرك أن المنكب البرزخي مصاب بجيوب الملح وخيمه.
محمد ولد عبدي يعرف أن الصحراء أرض الزرقة والحقّ ولكنها أيضا وفي غفلة من الزمن أرضٌ اختطفها "طفح الطين" وحاصرتها السباخ " لحد كان يُقوَّم فيه الإنسان ذات يوم بمقاس نعله من الملح، تلك المادة التي تفقد الأرض/ الأم/ الحياة، خصوبتها وتدفعها إلى التصحر والعقم، وتقضي على كل أمل في الحياة والنماء والتقدم." (كما كتبَ الدكتور محمد عبد الحي في إضاءته على رائعة عبدي "شقاق الطين").

وَلدْ عبدي بحث لهذه الأرض عن أنسنة أولى، عن زمن عذري أول. عن لحظة استهلالية قبل الاغتصاب، تجد فيها الأرض قدرة أولى، وطاقة أولى، ومجدا أول، تجد فيها ما به تؤسس لأفق آخر، ووجهة جديدة، وفضاء جامع :
"كانت قبل طَفْحِ الطِّينِ
مُنْتَبذًا
يلوذُ بها الذين تعلقوا بالشمس
من ظلِّ الطُّغاةِ" ("شقاق الطين").

جمعتنا أشياء كثيرة منذ أواسط الثمانينات. جمعتنا سياقات وظروف متعددة. ثمّ دار الزمن. ولكن بعد أيام أو بعد عقود : محمد ولد عبدي هو محمد ولد عبدي. هو كما عرفته أول يوم وآخر يوم : رجل إيمان، رجل عدل وحقّ. ظلّ وفيا لخياراته الأساسية كما هي حتى النهاية. لم يملّ من الاشراق : "هو الشعب أرض، هي الأرض شعب، هما الشعر...". بقي إنسانا. بقي إنسانا ضروريا لهذه الأرض وللأرض. إنه رجل هو الإيمان حيث يتجسد الإيمان في ثلاثة : رجل إبداع، ورجل فكر ورجل تخطيط. ولد وعاش وتوفي كريما شامخا لم يهتز ولم يتأرجح.
منذ أسابيع وهو في باريس وقد عَرفَ رأي الأطباء، أدركتُ من كلامه معي حول أشياء معينة أنه أخذ يودع هذه الدنيا. كان يقول جمله أحيانا بالفصحى على غير عادته في أحاديثنا الخاصة. قد عرف حينها ما لا أعرف مما به له باح الأطباء. شعرتُ بالقلق وأنا أبحث عن كلمات تناسب الموقف. وظلّ يتحدث بهدوء المؤمن الحقيقي وسكينته العميقة. يشكر الجميع ويذكر الجميع بخير. كثيرون عرضوا عليه بكرمٍ خدماتهم في باريس، ثمّ في تونس. ولكنّه فضّل أن يعتذر بلباقة. ظلّ وفيا لنفسه، كريم النفس بطبيعته. كانتْ إجابته للجميع أن مؤسسة عمله "تكفلتْ بنفقات العلاج".

جسّد ويجسّد محمد ولد عبدي أجمل ما في تلك الأرض. أعطى حتى آخر لحظة. دون أن ينتظر شيئا من أحد ودون أن يقبل شيئا من أحد. ودونه أنْ يّذكره أحد. حتى الذين جنّدتهم التفاهات في حقبة ما ضدّه وجدوا فيه الأخ المعين حين لجأوا إليه. عزائمه أعظم من أن تحاسب أصحاب الحسابات.

***
نعمْ، رجل على قدر عزائمه التي لا تقبل النزول. أراد للغة أن تقول ما لم تقبل أن تقوله من قبل. وأن تضيء من لم تكن تراهم. وأن تسمي من لم تكن تعرف لهم أسماء. وأن تصف ما كانت تحسبه العدم في حقل الصفات. كان المجرب والرائي. يريد الأفكار والصور أن تكون حركة وإنشاء لا استعادة وتكرارا وتبويقا. يريد للغائب أن يحضر. محمد يرغم اللغة على أن تستعيد طاقتها وضمائرها ومضمراتها المنفية وأن تتخلى عن حشوها وتمدداتها المخملية.
" مرة لأني رأيتك
وأخرى لأنك ستغيبين "
هكذا جاء في نُسخة قديمة لقصيدة سيكتبها شاعر ." ("مخطوطة")

اللغة ارتباط وتواصل وتضافر. مع الذات ومع الآخر. لذلك يلزم استخدامها لتدمير كل حدود تُواجه هذا التضافر. وأولها الحدود والفخاخ الذاتية، تلك التي يمكن أن تخلقها اللغة نفسها مذ عرفتْ تفكّكها البابلي. يلزم إعادة اختراع المفردات لا لتشكيل معجم داخل المعجم، بل لتكوين معجم يجمع كل المعاجم. حين نشرَ رائعته "شقاق الطين" منذ أربع سنوات كتب إليَ (20 فبراير 2011) بلُغته العذبة المترعة دائما بالمحبة
"
تحية ورجاء
العزيز الشاعر الكبير والمثقف العضوي بدي ولد ابنو المحترم

أشتاق إليك وإلى أخبارك.
هذا الصباح قرأت بيانك عن أحداث "فصاله" وهو أمر ليس بالمستغرب عليك إذ أنت دائما منحاز لقيم الحرية والعدالة، أرجو أن نظل دائما في تواصل وتنسيق.
وفي هذا السياق أبعث إليك آخر نص كتبته، وربما سبق لك الاطلاع عليه من خلال بعض المواقع، لكن رجائي الآن يتمثل في طلبي منك ترجمة هذا النص إلى الفرنسية، خاصة أنك بحسك الشعري المبدع، ولغتك الشاعرة المتميزة، ومعرفتك الخاصة بإحالاته المرجعية وظلاله الدلالية لا شك الأقدر على ترجمته، ورغبتي في ترجمته نابعة من إحساسي بأن من ينبغي لهم الاطلاع عليه وتمثله رؤية ودلالة قد لا يتمكنون من ذلك في لغته الأصلية مما يحجم رسالته وقاعدته القرائية.
أدرك تماما مشاغلكم ولكن ليس ثمة من أثق بقدرته على التلبس برؤية ولغة هذا النص سواكم
في انتظار ردكم تقبلوا فائق التقدير والاحترام
اخوكم وصديقكم محمد ولد عبدي"

فأجبته بعد أن صحبتُ وقتا مستحقّا "شقاق الطين"

"عزيزي وصديقي محمد،

قرأتُ القصيدة وهي فعلا مؤلمة وكثيفة ورائعة. أعدتُ قراءتها مرّات ولا شك أنها تستحق أن تُقرأ بما يتجاوز التشظّي البابلي..

إنها تخترق أفقية المشهد الألمي الأشلائي من أقصاه إلى أقصاه، من ملتقى البحرين إلى ملتقى المجابتين، لتعيد صياغته في تحولاته الأبدية بين تلال القهر وقوافل الملح ومدائنه.

مؤلمة هي هذه الأرض بسباخها وقوافلها ونخاستها وصرافتها. مؤلمة "منفى ومجلى".
وكأن قدرها أن تظل "شقاق طين" بل أن تظل "شقاق الطين." وأرض "القطيع والضرير" .

ظننا أن لن تحور أو صدقنا ما توهّمناه فكان أن التلال لا ترحل عشية إلا لتعود، إلا لتبقى حيث كانت أصيلا.

رغم زمن الحصار سوف أحاول جهدي إنشاء الله كما اقترحتَ.

لك خالص ودي،
بدي "
كان قد كتب إليَ قبل ذلك بسنوات (في الرسالة الملحقة) : "أنا يا صديقي أدرك أننا وحدنا نحن الشعراء المحترقين بالأرض والإنسان نؤسس للتاريخ ونعطي للغد معناه، وأن الذين أقصونا مهما أرعدوا وأبرقوا فهم الزبد، تلك سنة الحياة و إلا فمن أعطى للحضارة معناها وللإنسان قيمته؟ هل الطغاة أم الشعراء؟ هل الأفاقون أم الفلاسفة ؟ هل هم أولئك الذين يعيثون في وطننا المقصي المقهور أم نحن الذين أورثنا أطفالنا وقصائدنا الغربة في سبيل بنائه ورسم ملامح غده؟ "
قصيدته "شقاق الطين" كانت بمثابة عهد أخير، إلى كل شبر في هذه الأرض، وإلى كل فتاة وفتى من أهل هذه الأرض :

"وقد ضاقتْ علينا هذه الصَّحراءُ

واتسعت شقوقُ الطِّينِ

أيُ غدٍ سنُسْلِمُه الذينَ سيولدون غَداً

وقد ناغَوْا معاً

لعبوا معاً

حلموا معاً

ومعاً ستبقىَ هذه الصحراءُ مَنْفاهُمْ ومَجْلاهُم

فأيُ خطيئةٍ جاءوا

لِنُلْبِسَهُمْ عباءةَ عارِنا الطِّنيِّ

نُورثَهُمْ خَطَايَانَا

وما نَسَجَ الذينَ بوَهْمِهم

خاطُوا خُطَانَا"

علّنا نعيد جميعا تأملها وأن نتوقف حينا عند مقطعها الأخير :
"إذا يَهيجُ المَوْجُ
لا جبلٌ يَقيِ أحداً
ولا سفنٌ ولا مرسىَ
فهل غَدُنا سنُسْلِمُهُ لكفِّ الرِّيحِ
هل أرضٌ توحدنا تُفَرِقُنا ؟
وهل حلمٌ يُعانقنا يُناقِضُنا؟
لنا في هذه الصَّحراء مُتَّسَعٌ
لنا فقرٌ يُطوِّقنا
لنا جهلٌ يُمزِّقنا
لنا قهرٌ يؤرقنا
لماذا كلما اتسعت
تضيق بنا
لماذا كلما اتسعت
تضيق بنا؟"

***

"كل نفس ذائقة الموت".
كان يرددها محمد في الصباحات الأولى للطفولة الأولى. "كل نفس ذائقة الموت". لذلك ظلّ هادئا مؤمنا. رافقتْه شجاعته حتى اللحظة الأخيرة، رافقه صبره واطمئنانه. رافقاه حتى حين أخذ يملي وصيته الأخيرة على ابنته الرائعة عائشة. يخفف ما ستطاع بحنانه واطمئنانه عن دموعها.
"حين – أَذكرُ – كنتُ استبِقُ الفِراشَ
و اصطلي بالنار قُربَ أبي
أُرتِّل " كلُّ نفسٍ ... "
لم أكنْ أَدرى أذوقُ فِراقَ مَن رسمتْ خُطايَ
أمُطُّ أحزاني على أمي التي
كانت تقول إذا يُعنِّفُنيِ أبي :
مهلاً على ولدي ، فَآيُ الله ذوقٌ
كان يَبسَمُ :
آيُهُ ذوقٌ ، نَعم
و الذَّوقُ يَسبقُهُ اللِّسانْ
 اللهْ يا أبتِ –
صدقتَ "
رحم الله محمد ولد عبدي،
رحم الله محمد ولد عبدي وأسكنه فسيح جناته، مع النبيئين والصديقين والشهداء. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

بروكسيل 29 ديسمبر . كانون الأول 2014.
محمد بدي ابنو

ملحق : رسالتان

"
"
بسم الله الرحمن الرحيم

صديقي العزيز بدي

ها أنت تنفث في نفسي من جديد روح الحرف، وتحفر بعيدا في الذاكرة لتوقظ بعد خمسة عشر منفى أحلاماً حَمَّلتني الأرض أوجاعَ مخاضها، فتحملتها جراحاً حسبت الزمن أطمرها، والغربة أدملتها والذاكرة استراحت من وخزها حين الركون إلى مخدة نكود.
ها أنت أيها المتوهج الجميل، المفترد في منفاك تُنكئ حزني وتفتح القلب على آلام الجهات السِّت، فتعيد أمري كرة أولى وعمري عقوداً أسدلت عليها المنافي سجوفها وظننتها لن تحور.
متدثراً بالأزرق السحري والأرق المعتق
في أقاصي الليل
في زاوية قصوى
تغالب ما تبقى منك في قدح المنافي
نازفا بالحزن
تفتح سيرة آليت تغلقها
وظن الشعر أطمرها بثلج الكامل المنقوص
وحدك تحمل الصحراء
والطفل المخبأ فيك يضرب باكيا أضلاع ظلك
مثخنا بالحبر
تسلمه الحدود إلى الحدود .

ها أنت أيها المتلفع بصلواتك وآهاتك تثبت لي أن أحلاماً غرسناها ذات جمعية وسقيناها معاً بقصائدنا المنزهة عن النمطي المكرر والقبلي المجتر والراضخ الخّنوع ما زالت وجعاً يتردد في قلوبنا رغم النفي ورغم التشريد، وكما تقول :
إنما أمرنا وجع ....
يقتفي وجعا طالعا
والجراح التي نزفت والجوى
قد أرانا الرحيل الفرىّ هنا
فزعا.
ها أنت يا شبيهي في الاختلاف ويا صداي المحكي، تحرضني على البكاء في زمن حسبت الدمع جفَ والأرض غار ماؤها، وصوَّحت جميع الأصوات فلا تسمع همساً إلا تمجيداً لسلطانٍ أو تأليها لشيطان.
ها أنت، أنت كما اخترتك لنفسي واصطنعتك لها شاعراً متفرداً يعطي للانتماء معناه وللمعنى طاقته وللوطن لغته وللغة سحرها ولي ما أردت أن أكون :
تائها في مهب الكناية
مزملا بالرمال / الرحيل
لحارة حيرة حرفي وجومٌ
أروض فيه انتمائي إلى الأرض
أركض فيه إلى ثنيات انتسابي
فما حضرت ناقتي نقطة
إلا تجلى حضور غيابي .

فمن أين أبدأ هذا البوح، وأنا الذي اخترت بملء غربتي منذ تكالب علي المرجفون في تلك الرمال – مما لم أبح به من قبل – أن اعتزلهم وما يعبدون، بعدما رتَّلت فيهم ردحاً وأنذرتهم يوم الحسرة ولكن هيهات .
ناديت حتى غبت عن شفتى
وتشاكس الإيقاع والنبرُ

ورضيت أن أبقى يقلبني
فوق القصيد لأجلك الجمرُ
خمس عشرة سنة وأنا ألتحف حزني، وأدفع الثمن باهظا من قوتي الأسيرة في ضعفي الحائر، أترقب في صمت دورة الزمن، عسى يتعثر حظ الظالمين أو يولد من رحم الأرض نشْءٌ جديد، ذلك أني يا صديقي لطول ما شربت غربتي ولطول ما استنوق المبطلون ولكثرة ما تساقط في حبائل السلطان مَن كنت ذات يوم أظنهم يقاسمونني الغد، كدت أشك في أي فجر يطلع من تلك الأرض البوار، بل الأنكى من ذلك و الأحزّ في النفس أن السلطة سلَّطت علي أكثر من مرة أولائك " الصحب" الساقطين سماسرة يعدون " بمناصب عليا" في نظرهم الأعمش قصد تنميطي وتسبيحي شاعراً باسم وليهم وهيهات.
فأنا رغم تلك النظرة الحزينة ما أزال أراهن على الشعر، عليك، وعلى أمثالك، وعلى الذين يعيشون اللحظة في تلك الرمال صراعاً بين رغبة الضمير في الانعتاق وقيود الواقع الحرون.
اخترت الصمت، قابضا على جمر ضميري، رافضاً إغراءات سوق النخاسة، مستنكفا أن يقرأ ولدي عبادة ذات يوم أنى اشتركت في ضيم أو أعنت عليه.
هكذا أنا في وحدتي، منكفئا على قلب أضناه الفراق : فراق الأهل (أبوي وأخوي) الذين سافروا إلى العالم الآخر بلا أوب عسى الله أن يتغمدهم برحمته، وفراق الوطن الذي ما عاد للشعراء والصعاليك أمثالي و أمثالك فيه مستقرٌ :
كأن الزمان الذي خاطنا
ناء بالأين
واختار منفاه فينا
قرابين مفعمة بالنذور
كأنا ولدنا لذرع الخطايا
وما قالت الأرض في سرها للبذور

ها أنا أكاشفك، فاحفظ عني، أني قررت الدخول معك في مراهنة فضح السيبة والسدنة والشياطين، فاقبل الرهان، ولا يقعدنَّك عن صحبتي سلطان ولا شيطان، كما حدث مرة لصديق لي رام الصحبة فانبتَّ ، وحاشاك مثله.
أنا حين أصمت فعن حكمة وحين أنطق فلحكمة، وأنت كما اخترتك لنفسي أهلا للصحبة، فكن كما أردتك، وأعط المراهنة حقها، ولتعلم أني أثمن جهدك في الرّفض وأعول عليك في إخراجي من وحدتي التي أتلذذ بها، فأنا الآن أعيش في حضرة عَليّةٍ في مقام التلوين، وهو مقام يحسبه المرجفون رايةً بيضاء وهيهات، إن هو إلا احتراق فسفوري يدفع بالرفض والشعر صوب تخوم لا مطروقة.
كم ظنت الكلمات كاذبـــةً
أنْ قد سبتني فانتفى الأمرُ
وطلعت من برك الكلام ضحىً
تاجي القصيدُ وقامتي النصرُ

أنا يا صديقي أدرك أننا وحدنا نحن الشعراء المحترقين بالأرض والإنسان نؤسس للتاريخ ونعطي للغد معناه، وأن الذين أقصونا مهما أرعدوا وأبرقوا فهم الزبد، تلك سنة الحياة و إلا فمن أعطى للحضارة معناها وللإنسان قيمته؟ هل الطغاة أم الشعراء؟ هل الأفاقون أم الفلاسفة ؟ هل هم أولائك الذين يعيثون في وطننا المقصي المقهور أم نحن الذين أورثنا أطفالنا وقصائدنا الغربة في سبيل بنائه ورسم ملامح غده؟
فرق هو الفرق
قفر مساحتها العتبه
بين أرض السوى والرُّؤى
رحلة متعبه
اخط يا سالك الصعلكه
إنك المفرد الجمع
أنت الترقي إلى المرحله
اخط قدامك النور
قدامك السر
قدامك الوطن : الكلمه .

نعم في حضرتنا الشعرية يتماها الوطن والكلمة، لأن كليهما التزام بما به كل منهما يكون : الوطن بالعشق والكلمة بالشعر ، وهما معا لا يتحققان إلا بقربان باهظ ، هو الغربة التي نشتار منها عسل الشعر وأحزاننا التي نستضيء بها في ليل المعنى وأنفاق المنافي.
هكذا أنا منذ خمس عشرة سنة، ألتف حول شرنقتي، أنسج وطنا للشَعر وشعراً للطن، وكلما غزلت خيطا نقضته الأحزان .
من يطلب في المنفى وطنا للشعر

وفي الشعر الوطن المنفى
ستفيض جهات الحرف عليه
وتطرده المدن " الفضلى"

فهل تستطيع – يا صديقي – في مراسلاتنا هذه – على أحزاني صبرا ؟
أحسبك بها زعيما لذا :
صب لي قبل انتهائي ألما آخر
ضاعف ألمي
حتى يخف

و السلام عليك يوم عرفتك ويوم منفاك ويوم نبني معا وطنا.
كتبه الفقير إلى الله المتوكل عليه
"أبو عبادة محمد ولد عبدي "
لأربع ليال خلين من ربيع الآخر 1425هـ
الموافق 25-5-2004 م

"

أخي العزيز محمد،

جاءت كلمتُك كما توقّعتُها، عذبة، مفعمة بصفاتك. وسأستعير منك عبارة "الطيف الجميل" التي أطلقتَها لطفا منك على زيارتي لأصف بها لقاءنا معا مادامت الفرصة على ندرتها لم تمنحنا إلا بضع ساعات للتواصل بعد فراق دام خمس عشرة سنة. هي لحظات الزمن المعدود استعاضت عن الكثرة بالثخونة.

كانت الأسابيع الماضية أيام ترحال وشد رحال. وآمل أن تمنحني الفرص بعض نفيسها كي أشكرك بالغ الشكر على استقبالك البديع لي الذي شرفتني به في بيتك بمدينة أبي ظبي الجميلة. كانت جلسة "امتاع ومؤانسة" سمحت لي أن أدرك من خلالها أنك ما زلت وفيا لما به أصلا عرفتك ولما له ردحا صاحبتك. ذقتُ فيها طعم جلسات شاينا وأدركتُ أن جيماته المعجمة لم تهمل. سمعتُ في رغوة الكاسات المريئة أحاديثنا الأولى، وقرأتُ فيها "الشعب الأرض" و"الأرض الشعب" حيث " الشعر مختلط بالحجارة". أيام الإرهاصات الثمانينية حين كانت "غرناطة" وعدا نتقاسمه وكانت الفضاءات الوليدة لبنات نصوغها ونحسبها قواما لمداميك حصينة ولصروح مشيدة. كنا نخشى أن تهوى صخرتنا دون الأمد وأن يشبه سدنا سد المسعدي. نتهيب وندرك بغموض أن أمرا قد قضي. نعم كنا على أبواب السيبة الثانية :

"على باسقات النخيل التي لفّها كلُّ جذع كريم بقي،

على آخر الصهوات التي ما يزال لها إلى الكبرياء سبيل،

على الطرقات القصية،

في الزمن الدم،

رغم أنوف البلية،

ترحل عن أرضها الأرض."

هل تذكر أحد شايات أواخر الثمانينات، وقد حملتْ جيماته قلق "النحت" و"نحت النحت"؟ أذكر لحظة أخرى مترعة بمعاني الصلة والتواصل، مترعة بالارتباط التمايز، كنتَ تعقّب على إحدى قصائدي التي دعوتني إلى قراءتها في برنامج "المجلة الثقافية" يوم كنت تعدّها وكنتُ أعقّب على تقيبك. أيامها كنتَ في صحيفة "الشعب" ترتل "التراتيل" التي بها استنجدت سماء كادت أن تنسى أرضها واستنهضتَ أرضا كادت عزيمتها أن تنهّد وأن تلتحف الخور كفنا أبديا. ومع نٌعيمة تناشد الأخ :

"أخي، قد تم ما لو لم نشأه نحن ما تمَّا

وقد عمّ البلاء، ولو أردنا نحن ما عمَّا

فلا تندب، فأذن الغير لا تُصغي لشكوانا"

وتداعت السنين العجاف. وأسعفكَ حدسُ المبدع فأدركتَ بعيني زرقاء اليمامة أن العام الذي فيه يغاث الناس لم يزل عنهم مبتعدا ما لم يغيّروا ما بأنفسهم ففضلتَ القصية ولو شقّت على الدنية ولو أغْرَت، فضلتَ الرحيل ولو استعصى على السراب ولو لمع :

"هنا في الأقاصي،

وفي الأزمنة ـ التيه،

لم يعد الفستق لي،

ولم يعد النخل لي،

ولم يعد الشاي يجمع جمعا،

ولا الذكريات الجميلة،

لم يبق غير الرحيل،

ولم يبق بعد الرحيل سواه."

ودّعتُكَ أيامها أواخر 89 على ما أذكر وأنا أحسب أني ألقاك بعد أشهر مكرما بين ظهرانينا فإذا العجاف كلمة تؤمّ كلاما وإذا كل كثير يسمي سبعا. ذلك بعض السر أو أوله. أكثر من خمس عشر سنة توالت وتتالت والناس تنتظر العام فيما التيه يعصف بها عصفا بل يسحلها سحلا. خمس عشرة سنة والصروف تقذف بنا إلى الأقاصي :

"كلما أتمنى التصابي،

أعدّ الأقاصي التي بينها أتهادى،

وأذكر نفسي :

رحيلي قعودٌ إلى

الفجر.

لا فجر.

أذكر نفسي :

عزائي الوحيدُ طريدٌ،

كمثلي، يردّد، حيث

انتفى وانتهى، قصتي."

خمس عشر سنة وما ازداد أنين "كدية الجل" و نشيج "هضبتي إج" إلا احتداما لمن شاء أن يصغي ويسمع.

أعرف أنك عدتَ من بعد لبضعة أسابيع. كنتُ حينها في "المنفى الباريسي" أرتّل صلواته. ولكن المرحومة خديجة حدثتني عن الأمسيات الشعرية التي أقيمت احتفاء بك. وأحسب أنك شعرتَ حينها بما شعر به كل من قدر له من بيننا أن يزور "الأرض السائبة" في سيبتها الثانية، أحسبكَ أحسستَ بغربة تأخذ معها دلالاتُ الرحيل والشرخ كاملَ متّسعها، غربةٌ لها من عودة "أهل الكهف" معنى ومن رحلة الفتى الشاطري معان. وهي إلى ذلك عودة الباحث عن حضن ليلاه تلك التي وئدتْ ليلا أو بيعتْ نهارا :

"فلا تطلب إذا ما عُدت للأوطان خلانا

لأن الجوع لم يترك لنا صحبًا نناجيهم

سوى أشباح موتانا !"

"أخي، من نحن لا أهل ولا وطن ولا جارُ

إذا نمنا، إذا قمنا، رِدانا الخزي والعار

لقد خُمَّت بنا الدنيا كما خمت بموتانا"

نعم لقد خمتْ بنا الدنيا ورحلت الأرض عن أرضها غير أنها تبقى لله يورثها من يشاء.

أخي محمد،

"هي الأرض شعب

هو الشعب أرض

هما الشعر مختلط بالحجارة."

ألف تحية وللحديث بقية.

باريس 2 يونيو 2004

م. بدي ولد ابنو

عودة للصفحة الرئيسية

الصفحة الرئيسية   |   أضفنا إلى مفضلتك   |   من نحن؟    |   اتصل بتا