التقيت محمد سعيد ولد همدي أول مرة في بداية التسعينيات على هامش النسخة الأولى من مهرجان أطار، مطاف النسخة اليتيمة التي أقامها ورعاها عمدة المدينة آنذاك السياسي والوزير أحمد ولد سيدي بابا.
احتضنني محمد سعيد بسرعة وذهبت معه إلى بيت العائلة في أطار، فقد كان محطة مهمة للزوار القادمين من وإلى شنقيط.
كانت الصلات بين المحيط العائلي لكلينا تشهد بكثير من الود.
استدعى محمد سعيد أو الداه -كما يعرفه الخاصة- كل ذلك في لقائنا الأول، وقد أفاض في ذلك اللقاء -كما في لقاءات عديدة لاحقة جمعتني به- بالحديث عن تلك الصلات التي بناها والده مع العديدين من محيطنا الأسري.
في مهنة الصحافة يحتاج المبتدئ مثلي إلى من يشرح له الكثير من خلفيات الوقائع التاريخية، وكان محمد سعيد نعم العون، فذهنه الوقاد وذاكرته المليئة بالتفاصيل تساعد في شرح وتمحيص الوقائع عندما نحتاج لإسقاطها على تجليات الحاضر.
سيعينني الزمن على اكتشاف جوانب أخرى من مواهب الرجل وثقافته الواسعة سواء تعلق الأمر بعلم الأنساب أو تاريخ القبائل أو ثلاثية القحط والحرب والهجرة.
وسأشاركه هواية جمع الصور النادرة لأجد لديه كنوزا أرّخت لتاريخ موريتانيا ورجالاتها، وقد أثرى محمد سعيد التاريخ الموريتاني وجدد فيه عندما أدخل الكاميرا كوسيلة جديدة لتدوين هذا التاريخ، فبواسطة الكاميرا سيبدأ محمد سعيد فصلا جديدا من الكتابة التاريخية يعتمد علي الصورة، وقد بوأه لهذه المهمة نشأته في الحضر، وسيجد المؤرخون فيما ترك أو جمع من الصور مادة خصبة لأبحاثهم ودراساتهم.
قدر لي مرات عديدة أن أزوره في منزله بل قل في مكتبته، لا بل قل في متحفه البديع الذي يمثل اليوم أهم وجهة يقصدها الباحثون والمهتمون بالتاريخ الموريتاني القديم والمعاصر، فهو يحتوي على أغلب الكتب، بل أكاد أجزم وأقول جميع الكتب بلا استثناء التي ألّفها الموريتانيون عن بلدهم أو تلك التي ألفها الآخرون عنهم، سواء منها ما كان بالعربية أو الفرنسية أو الانجليزية أو الاسبانية، كما يحتوي المنزل - المتحف على أرشيف من الوثائق التاريخية النادرة وعلى كنز من الصور التي لا تقدر بثمن والتي التقطت في فترات مختلفة من تاريخ موريتانيا، وتكمن قيمة بعض تلك الصور في كونها بعدسة محمد سعيد نفسه ! كما يحتوي المتحف على أرشيف موسيقي نادر.
وقد مكنتني زياراتي لمنزل محمد سعيد أو على الأصح لمتحفه أن أطلع على كتب كنت أسمع عنها فلا أجدها لرحالة غربيين وأخرى لمستكشفين كانوا يمهدون الأرض لدخول الاستعمار إلى المنطقة، كما أطلعني محمد سعيد على تقارير كتبها إداريون ومخبرون سريون غربيون تروي جوانب مختلفة من ذاكرة وحياة هذا البلد؛ كان محمد سعيد يجد متعته بين الكتب بخلاف العديدين من جيله.
كانت له خصال أخرى كثيرة يعرفها كل من عرفه عن قرب.. كرمه وأريحيته وقدرته على قبول الاختلاف؛ أما فضيلة محمد سعيد الكبرى -وكم له من الفضائل الكبيرة- فتتمثل في انحيازه إلى جانب المظلومين والضعفاء والجرأة في قول الحق دفاعا عنهم.
ذلك هو محمد سعيد، لم يكن رجل آدرار فقط، كانت موريتانيا كلها بيته وأهله.
رحمه الله، فقد كان يحمل هم الأمة في قلبه الكبير، ويحنو على وحدتها الوطنية وتماسكها الاجتماعي، حنو المرضعات على الفطيم.
كم نحتاج إلى أمثاله اليوم، حيث تشابكت الرؤى واختلطت الهموم وقل الإنصاف.!
صحراء ميديا