ذهبت مع مدير الأخبار لغرفة الأخبار وكانت وقتها عبارة عن مجموعة بيوت عادية لا تجهيزات فيها سوى طاولات وكراسي "أكل عليها الدهر وشرب"،جلست في مكتب مدير الأخبار وهو بالمناسبة وقتها إحدى تلك الغرف لا يوجد فيها سوى هاتف ثابت على مكتب وخزانة.
جلست بين مجموعة من الزملاء الجدد وكان الكل يرمقني وكأني قادم من كوكب آخر, في حين بادر البعض بسؤالي من أين أتيت؟ أجابهم مدير الأخبار وقتها وهو شاب طيب وخلوق (هذا زميلنا يدرس الاعلام في تونس وجاء للتدريب هنا).
صرفت سحابة ذلك اليوم في التعرف على الزملاء الجدد وهيكلة قسم الأخبار ومصادرها.
عرفت بعد نهاية الدوام الرسمي غالبية العاملين معي في القسم وطبيعة عملهم التي كانت تشمل التحرير واعداد التقارير الاخبارية من خلال تغطية النشاطات الرسمية ،إضافة إلى الاستعانة ببرقيات الوكالة الموريتانية للأنباء خاصة في النشاطات الرسمية والدولبة،حيث انه كان لدى الاذاعة وقتها خطان فرنسي، وعربي ولكن الأخير متعطل منذ فترة طويلة بحسب بعض الزملاء الجدد مما طرح اشكالية الترجمة حيث أن قطاع الأخبار وقتها قل من يتكلم ويترجم فيه بين اللغتين العربية والفرنسية.
هيكلة قسم الأخبار أيضا كانت مثار عجب لي حيث أنني لم أجد فيها الوظائف المطلوبة في أي قسم أخبار حسب المواصفات العالمية(رئيس التحرير،نواب رئيس التحرير، مدراء الفترات الاخبارية،المترجمون، الصحفيون المتخصصون في التقارير المحترفة سياسيا واقتصاديا وثقافيا،صحفيو المنوعات،المقدمون،صحفيو المقابلات)،كما يغيب يغيب كل الجانب الفني للنشرة من "الدليل الاذاعي والمؤثرات الصوتية وتقسيم وقت النشرة بين فقرات،كما لاتطبع النشرة ولايحترم وقتها غالبا ولا تذكر مصادر الأخبار في كل خبر والمونتاج باليدين والمقص والتسجيل بآلات التسجيل القديمة المعروفة ب"النكرة"،(والأدهى من كل ذلك هو غياب مايهم المستمعين في نشرات الأخبار).
قضيت ما يناهز نصف شهر في قسم الآخبار وكنت مثل السجين فيه، حيث أن غالبية الزملاء يحرصون على أداء عملهم بسرعة ويذهبون (لانقاشات ثقافية، ولاجلسات استفادة، ولانقاش لأخطاء العمل، حتى اجتماع التحرير اليومي كان غائبا).كنت أقضي سحابة يومي في الترجمة والتحرير الاخباري.
بعد تلك الفترة ذهبت لقسم البرامج والذي لم يكن أيضا بأكثر مهنية من سابقه في تلك الفترة، حيث غالبية العاملين فيه مثل قطاع الأخبار لا علاقة لهم بالعمل الاعلامي(خير مثال على ذلك هو تعدد أسماء ومضامين البرنامج الواحد، وطريقة الاعداد التي لا تتعدى في الغالب تسجيلا لأجوبة مع ضيف محدد مع بثها في وقت لاحق أو كتابة أوراق من جريدة او كتاب وقراءتها، في حين لا توجد وقتها برامج تفاعلية مباشرة تذكر،ناهيك عن أن غالبية المواضيع الهامة محظورة.
أما هيكلة قسم البرامج فلم تكن جيدة حيث لا توجد مصالح متخصصة لرصد آراء المستمعين ولا قسم للاستماع المسبق للبرامج ولا معايير تقييم مهنية مثل "قيمة الموضوع، نسبة المستمعين المفترضة،المدة المناسبة الوقت المناسب للبث والاعادات، الضيوف المناسبون ، المقدم المناسب، أسلوب الاخراج الفني المناسب).
وتدل على بساطة العمل في هذا القسم أن البرامج تمنح وقتها بحسب علاقات الزبونية والقرابة والمعرفة" وهي أمور لا علاقة لها بالمستند الأصلي للمهنة الذي هو المعرفة والثقافة الواسعة وإتقان الموضوع ومعرفة كل جوانبه والضيوف المقترحين وكيفية البحث عن المصادر"الميتة" التي تعرف أيضا بالوثائقية وحسن الأداء الصوتي للمقدم.
شاركت خلال هذه الفترة في إعداد بعض البرامج وتسجيلها وتعرفت أيضا على بعض الزملاء في هذا القسم.
كانت خلاصة التدريب كافية لاستناج النقاط التالية :
الاعلام الرسمي وقتها "بوق تطبيل وتزمير وغرفة تسجيل للنظام"
الاعلام الرسمي وقتها معظم العاملين فيه لا علاقة لهم بالمجال
الاعلام الرسمي لا يؤثر وقتها لأن مصداقيته مهزوزة
الاعلام الرسمي وقتها لا يمتلك البنية التحتية اللازمة ولا المصادر البشرية
الاعلام الرسمي وقتها مرتع للعاطلين عن العمل "من أبناء المتنفذين"
الاعلام الرسمي وقتها بعيد عن كل ما له علاقة بالشفافية والنزاهة "أداء وتوظيفا".
أنهيت ذلك الشهر الذي كان طويلا علي بسبب رتابة العمل والأجواء الخانقة والكئيبة داخل الاذاعة، وسلم لي نائب المدير العام وقتها إفادة تدريب كانت هي كل ما أتمناه للخروج من "عنق الزجاجة" الذي وضعت فيه نفسي وعن حسن نية.
في صباح 27 سبتمبر 2000 دعا داعي الغربة من جديد ولكن هذه المرة للسنة النهائية ..طفقت إذن لأرض تونس الخضراء في رحلة...
بقلم :محمد ولد محمد الأمين (نافع)
ملاحظة :
للتعليق والملاحظات :
oulnafaa.mohamed@gmail.com
هذه المذكرات واقعية نشرت جامعة " جورج تاون" الأمريكية مقتطفات منها في بعض كتبها المدرسية المترجمة باللغة الانجليزية التي تدرس بغالبية جامعات العالم(راجع الحلقات السابقة بالموقع زاوية رأي).